فصل: الثَّانِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.الْهَدْمُ:

وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الْغَيْرُ بِكَلَامٍ يَتَضَمَّنُ مَعْنًى فَتَأْتِيَ بِضِدِّهِ فَإِنَّكَ قَدْ هَدَمْتَ مَا بَنَاهُ الْمُتَكَلِّمُ الْأَوَّلُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه} هَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} وبقوله: {والله لا يحب الظالمين} وبقوله: {فلم يعذبكم بذنوبكم}، تَقْدِيرُهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ.
وَمِنْهُ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المسيح ابن الله} هدمه بقوله: {ذلك قولهم بأفواههم} وقوله: {ما اتخذ الله من ولد}.
منه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله} هَدَمَهُ بِقَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أَيْ فِي دَعْوَاهُمُ الشَّهَادَةَ.

.التَّوَسُّعُ:

مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ بِالنَّظَرِ فِي الْمَلَكُوتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لقوم يعقلون}.
ويكثر ذلك في تقديرات العقائد الإلهية: لتتمكن في النفوس، كقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وَذَلِكَ بَعْدَ ذِكْرِ النُّطْفَةِ وَتَقَلُّبِهَا فِي مَرَاتِبِ الْوُجُودِ وَتَطَوُّرَاتِ الْخِلْقَةِ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركون}.
وَمِنْهُ التَّوَسُّعُ فِي تَرَادُفِ الصِّفَاتِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يكد يراها}، فَإِنَّهُ لَوْ أُرِيدَ اخْتِصَارُهُ لَكَانَ: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ في بحر لجي} مُظْلِمٍ.
وَمِنْهُ التَّوَسُّعُ فِي الذَّمِّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بنميم} إلى قوله: {على الخرطوم}.

.التَّشْبِيهُ:

اتَّفَقَ الْأُدَبَاءُ عَلَى شَرَفِهِ فِي أَنْوَاعِ الْبَلَاغَةِ وَأَنَّهُ إِذَا جَاءَ فِي أَعْقَابِ الْمَعَانِي أَفَادَهَا كَمَالًا وَكَسَاهَا حُلَّةً وَجَمَالًا قَالَ الْمُبَرِّدُ فِي (الْكَامِلِ): هُوَ جَارٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَتَّى لَوْ قَالَ قَائِلٌ: هُوَ أَكْثَرُ كَلَامِهِمْ لَمْ يَبْعُدْ. وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَبُو الْقَاسِمِ ابن البنداري البغدادي كتاب (الجمان في تشبهيات القرآن).

.مباحث التشبيه:

وَفِيهِ مَبَاحِثُ:

.الْأَوَّلُ: فِي تَعْرِيفِهِ:

وَهُوَ إِلْحَاقُ شَيْءٍ بِذِي وَصْفٍ فِي وَصْفِهِ.
وَقِيلَ: أَنْ تُثْبِتَ لِلْمُشَبَّهِ حُكْمًا مِنْ أَحْكَامِ الْمُشَبَّهِ بِهِ.
وَقِيلَ: الدَّلَالَةُ عَلَى اشْتِرَاكِ شَيْئَيْنِ فِي وَصْفٍ هو من أوصاف الشيء الواحد كَالطِّيبِ فِي الْمِسْكِ وَالضِّيَاءِ فِي الشَّمْسِ وَالنُّورِ فِي الْقَمَرِ. وَهُوَ حُكْمٌ إِضَافِيٌّ لَا يَرِدُ إِلَّا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِخِلَافِ الِاسْتِعَارَةِ.

.الثَّانِي: فِي الْغَرَضِ مِنْهُ:

وَهُوَ تَأْنِيسُ النَّفْسِ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ خَفِيٍّ إِلَى جَلِيٍّ وَإِدْنَائِهِ الْبَعِيدَ مِنَ الْقَرِيبِ لِيُفِيدَ بَيَانًا.
وَقِيلَ: الْكَشْفُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ مَعَ الِاخْتِصَارِ فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: زَيْدٌ أَسَدٌ كَانَ الْغَرَضُ بَيَانَ حَالِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِقُوَّةِ الْبَطْشِ وَالشَّجَاعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ شَيْئًا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِوَى جَعْلِنَا إِيَّاهُ شَبِيهًا بِالْأَسَدِ حَيْثُ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ مُخْتَصَّةً بِهِ فَصَارَ هَذَا أَبْيَنَ وَأَبْلَغَ مِنْ قَوْلِنَا زَيْدٌ شَهْمٌ شُجَاعٌ قَوِيُّ الْبَطْشِ وَنَحْوِهِ.

.الثَّالِثُ: فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَوْ مَجَازٌ:

وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ قَالَ الزِّنْجَانِيُّ فِي (الْمِعْيَارِ): التَّشْبِيهُ لَيْسَ بِمَجَازٍ لِأَنَّهُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي وَلَهُ أَلْفَاظٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَضْعًا فَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ اللَّفْظِ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَإِنَّمَا هُوَ تَوْطِئَةٌ لِمَنْ سَلَكَ سَبِيلَ الِاسْتِعَارَةِ وَالتَّمْثِيلِ لِأَنَّهُ كَالْأَصْلِ لَهُمَا وَهُمَا كَالْفَرْعِ لَهُ.
وَالَّذِي يَقَعُ مِنْهُ فِي حَيِّزِ الْمَجَازِ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ هُوَ الَّذِي يَجِيءُ عَلَى حَدِّ الِاسْتِعَارَةِ.
وَتَوَسَّطَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ بِحَرْفٍ فَهُوَ حَقِيقَةٌ أَوْ بِحَذْفِهِ فَمَجَازٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَذْفَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ.

.الرَّابِعُ: فِي أَدَوَاتِهِ:

وَهِيَ أَسْمَاءٌ وَأَفْعَالٌ وَحُرُوفٌ.
فَالْأَسْمَاءُ: مَثَلٌ وَشَبَهٌ وَنَحْوُهُمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ ريح فيها صر} {مثل الفريقين كالأعمى} {وأتوا به متشابها} {إن البقر تشابه علينا}.
والأفعال: كقوله: {يحسبه الظمآن ماء} {يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى}.
وَالْحُرُوفُ إِمَّا بَسِيطَةٌ كَالْكَافِ، نَحْوُ: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ به الريح} {كدأب آل فرعون} وإما مركبة، كقوله تعالى: {كأنه رؤوس الشياطين}.

.الْخَامِسُ: فِي أَقْسَامِهِ:

وَهُوَ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارَاتٍ:
الْأَوَّلُ: أنه إما أن يشبه بحرف أولا.
وَتَشْبِيهُ الْحَرْفِ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّشْبِيهِ فَقَطْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وقوله: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام}.
{فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان}.
{خلق الإنسان من صلصال كالفخار}.
{وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون}.
{وجنة عرضها كعرض السماء والأرض}.
وَثَانِيهَا: أَنْ يُضَافَ إِلَى حَرْفِ التَّشْبِيهِ حَرْفٌ مُؤَكِّدٌ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى قُوَّةِ التَّشْبِيهِ وتأكيده وكقوله تعالى: {كأنهن الياقوت والمرجان}.
{كأنهن بيض مكنون}.
{وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة}.
{تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر}.
{كأنهم أعجاز نخل خاوية}.
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ اسْتَرْسَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَقَوْلُهُ: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هذا الذي رزقنا من قبل} وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ وَاحْتَرَزَتْ بِلْقِيسُ فقالت: {كأنه هو} وَلَمْ تَقُلْ: هُوَ هُوَ؟.
قِيلَ: أَهْلُ الْجَنَّةِ وَثِقُوا بِأَنَّ الْغَرَضَ مَفْهُومٌ وَأَنْ أَحَدًا لَا يَعْتَقِدُ فِي الْحَاضِرِ أَنَّهُ عَيْنُ الْمُسْتَهْلَكِ الْمَاضِي وَأَمَّا بِلْقِيسُ فَالْتَبَسَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ وَظَنَّتْ أَنَّهُ يشبهه، لِأَنَّهَا بَنَتْ عَلَى الْعَادَةِ وَهُوَ أَنَّ السَّرِيرَ لَا يَنْتَقِلُ مِنْ إِقْلِيمٍ إِلَى آخَرَ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ.
وَأَمَّا التَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ، فَيُقْصَدُ بِهِ الْمُبَالَغَةُ تَنْزِيلًا لِلثَّانِي مَنْزِلَةَ الْأَوَّلِ تَجَوُّزًا، كقوله: {وأزواجه أمهاتهم}.
وقوله: {وسراجا منيرا}.
وقوله: {وجنة عرضها السماوات والأرض}.
وكذلك: {تمر مر السحاب}.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {قواريرا قوارير من فضة} أَيْ كَأَنَّهَا فِي بَيَاضِهَا مِنْ فِضَّةٍ فَهُوَ عَلَى التَّشْبِيهِ لَا عَلَى أَنَّ الْقَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ}، فَقَوْلُهُ: (بَيْضَاءَ) مِثْلُ قَوْلِهِ: (مِنْ فِضَّةٍ).

.تَنْبِيهَانِ:

.الْأَوَّلُ:

هَذَا الْقِسْمُ يُشْبِهُ الِاسْتِعَارَةَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا-كَمَا قَالَهُ حَازِمٌ وَغَيْرُهُ- أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّشْبِيهِ فَتَقْدِيرُ حَرْفِ التَّشْبِيهِ لَا يَجُوزُ فِيهَا وَالتَّشْبِيهُ بِغَيْرِ حَرْفٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَ حَرْفِ التَّشْبِيهِ وَاجِبٌ فِيهِ.
وَقَالَ الرُّمَّانِيُّ فِي قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرة} أَيْ تَبْصِرَةً لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ حَرْفِ التشبيه فيها.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْبَيَانِيُّونَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {صم بكم عمي} إِنَّهُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ أَوِ اسْتِعَارَةٌ؟ وَالْمُحَقِّقُونَ-كَمَا قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ- عَلَى الْأَوَّلِ قَالَ: لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ- وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ- أَيْ مَذْكُورٌ فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَالِاسْتِعَارَةُ لَا يُذْكَرُ فِيهَا الْمُسْتَعَارُ لَهُ وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خِلْوًا عَنْهُ بِحَيْثُ يَصْلُحُ لأن يراد به المنقول عنه و: (المنقول) إليه لولا لا قرينة وَمِنْ ثَمَّ تَرَى الْمُفْلِقِينَ السَّحَرَةَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُمْ يَتَنَاسَوْنَ التَّشْبِيهَ وَيَضْرِبُونَ عَنْهُ صَفْحًا.
وَقَالَ السَّكَّاكِيُّ: لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ إِمْكَانَ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الظَّاهِرِ وَتَنَاسِي التَّشْبِيهِ وَزَيْدٌ أَسَدٌ لَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ حَقِيقَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً.

.الثَّانِي:

قَدْ يُتْرَكُ التَّشْبِيهُ لفظا ويراد معنى إذ لَمْ يُرَدْ مَعْنًى وَلَمْ يَكُنْ مَنْوِيًّا كَانَ اسْتِعَارَةً.
مِثَالُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، فَهَذَا تَشْبِيهٌ لَا اسْتِعَارَةٌ لِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْخَيْطِ الأسود وهو ما يمتد معه مِنْ غَسَقِ اللَّيْلِ شَبِيهًا بِخَيْطٍ أَسْوَدَ وَأَبْيَضَ وَبُيِّنَا بِقَوْلِهِ: {مِنَ الْفَجْرِ} وَالْفَجْرُ- وَإِنْ كَانَ بَيَانًا لِلْخَيْطِ الْأَبْيَضِ- لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَحَدُهُمَا بَيَانًا لِلْآخَرِ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ اكْتُفِيَ بِهِ عَنْهُ وَلَوْلَا الْبَيَانُ كَانَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا أَنَّ قَوْلَكَ رَأَيْتُ أَسَدًا اسْتِعَارَةٌ فَإِذَا زِدْتَ مِنْ فُلَانٍ، صَارَ تَشْبِيهًا وَأَمَّا أَنَّهُ لِمَ زِيدَ (مِنَ الْفَجْرِ) حَتَّى صَارَ تَشْبِيهًا؟ وَهَلَّا اقتصر به.
عَلَى الِاسْتِعَارَةِ الَّتِي هِيَ أَبْلَغُ فَلِأَنَّ شَرْطَ الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْحَالُ وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ (مِنَ الْفَجْرِ) لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْخَيْطَيْنِ مُسْتَعَارَانِ مِنْ (بَدَا الْفَجْرُ) فَصَارَ تَشْبِيهًا.
التَّقْسِيمُ الثَّانِي:
يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ طَرَفَيْهِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُمَا:
إِمَّا حِسِّيَّانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى عَادَ كالعرجون القديم} وقوله: {كأنهم أعجاز نخل منقعر}.
أَوْ عَقْلِيَّانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قسوة}.
وَإِمَّا تَشْبِيهُ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} وَقَوْلِهِ: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كرماد اشتدت به الريح}، وقوله: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} لِأَنَّ حَمْلَهُمُ التَّوْرَاةَ لَيْسَ كَالْحَمْلِ عَلَى الْعَاتِقِ إِنَّمَا هُوَ الْقِيَامُ بِمَا فِيهَا.
أَمَّا عَكْسُهُ فَمَنَعَهُ الْإِمَامُ، لِأَنَّ الْعَقْلَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْحِسِّ وَلِذَلِكَ قِيلَ: مَنْ فَقَدَ حِسًّا فَقَدْ فَقَدَ علما وإذا كان ان الْمَحْسُوسُ أَصْلًا لِلْمَعْقُولِ فَتَشْبِيهُهُ بِهِ يَسْتَلْزِمُ جَعْلَ الْأَصْلِ فَرْعًا وَالْفَرْعَ أَصْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَجَازَهُ غَيْرُهُ كَقَوْلِهِ:
وَكَأَنَّ النُّجُومَ بَيْنَ دُجَاهُ ** سُنَنٌ لَاحَ بَيْنَهُنَّ ابْتِدَاعُ

وَيَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارٍ آخَرَ إِلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: قَدْ يُشَبَّهُ مَا تَقَعُ عَلَيْهِ الْحَاسَّةُ بِمَا لَا تَقَعُ اعْتِمَادًا عَلَى مَعْرِفَةِ النَّقِيضِ وَالضِّدِّ فَإِنَّ إِدْرَاكَهُمَا أَبْلَغُ من إدراك الحاسة كقوله تعالى: {كأنه رؤوس الشياطين}، فَشَبَّهَ بِمَا لَا نَشُكُّ أَنَّهُ مُنْكَرٌ قَبِيحٌ لِمَا حَصَلَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْ بَشَاعَةِ صُوَرِ الشَّيَاطِينِ وَإِنْ لَمْ تَرَهَا عَيَانًا.
الثَّانِي: عَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} أَخْرَجَ مَا لَا يُحَسُّ- وَهُوَ الْإِيمَانُ- إِلَى مَا يُحَسُّ- وَهُوَ السَّرَابُ- وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بُطْلَانُ التَّوَهُّمِ بَيْنَ شِدَّةِ الْحَاجَةِ وَعِظَمِ الْفَاقَةِ.
الثَّالِثُ: إخرج مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ، نَحْوَ: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كأنه ظلة}، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الِانْتِفَاعُ بِالصُّورَةِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {إِنَّمَا مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} وَالْجَامِعُ الْبَهْجَةُ وَالزِّينَةُ ثُمَّ الْهَلَاكُ وَفِيهِ الْعِبْرَةُ.
الرَّابِعُ: إِخْرَاجُ مَا لَا يُعْرَفُ بِالْبَدِيهَةِ إِلَى مَا يُعْرَفُ بِهَا كَقَوْلِهِ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ والأرض} الْجَامِعُ الْعِظَمُ وَفَائِدَتُهُ التَّشْوِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ بِحُسْنِ الصفة.
الْخَامِسُ: إِخْرَاجُ مَا لَا قُوَّةَ لَهُ فِي الصِّفَةِ إِلَى مَا لَهُ قُوَّةٌ فِيهَا كَقَوْلِهِ: {وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام} وَالْجَامِعُ فِيهِمَا الْعِظَمُ وَالْفَائِدَةُ الْبَيَانُ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْخِيرِ الْأَجْسَامِ الْعِظَامِ فِي أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْمَاءِ.
وَعَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ تَجْرِي تَشْبِيهَاتُ الْقُرْآنِ.
التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ:
يَنْقَسِمُ إِلَى مُفْرَدٍ وَمُرَكَّبٍ:
وَالْمُرَكَّبُ: أَنْ يُنْزَعَ مِنْ أُمُورٍ مَجْمُوعٍ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يحمل أسفارا} فالتشبيه مركب من أحوال الحمار وذلك هو حَمْلَ الْأَسْفَارِ الَّتِي هِيَ أَوْعِيَةُ الْعِلْمِ وَخَزَائِنُ ثَمَرَةِ الْعُقُولِ ثُمَّ لَا يُحْسِنُ مَا فِيهَا وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَحْمَالِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنَ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ فَلَيْسَ لَهُ مِمَّا يَحْمِلُ حَظٌّ سِوَى أَنَّهُ يَثْقُلُ عَلَيْهِ وَيُتْعِبُهُ.
وَقَوْلُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا}.
وَقَوْلِهِ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ من السماء} قَالَ بَعْضُهُمْ: شَبَّهَ الدُّنْيَا بِالْمَاءِ وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَخَذْتَ مِنْهُ فَوْقَ حَاجَتِكَ تَضَرَّرْتَ وَإِنْ أَخَذْتَ قَدَرَ الْحَاجَةِ انْتَفَعْتَ بِهِ فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَاءَ إِذَا أَطْبَقْتَ كَفَّكَ عَلَيْهِ لِتَحْفَظَهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الدُّنْيَا وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَهَا بالماء وحده بل المراد تشبيهه بهجةالدنيا فِي قِلَّةِ الْبَقَاءِ وَالدَّوَامِ بِأَنِيقِ النَّبَاتِ الَّذِي يَصِيرُ بَعْدَ تِلْكَ الْبَهْجَةِ وَالْغَضَاضَةِ وَالطَّرَاوَةِ إِلَى ما ذكر.
وَمِنْ تَشْبِيهِ الْمُفْرَدِ بِالْمُرَكَّبِ قَوْلُهُ: {مَثَلُ نُورِهِ كمشكاة} فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ تَشْبِيهَ نُورِهِ الَّذِي يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ ثُمَّ مَثَّلَهُ بِمِصْبَاحٍ ثُمَّ لَمْ يَقْنَعْ بِكُلِّ مِصْبَاحٍ بَلْ بِمِصْبَاحٍ اجْتَمَعَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْإِضَاءَةِ بِوَضْعِهِ فِي مِشْكَاةٍ وَهِيَ الطَّاقَةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ وَكَوْنُهَا لَا تَنْفُذُ لِتَكُونَ أَجْمَعَ لِلتَّبَصُّرِ وَقَدْ جُعِلَ فِيهَا مِصْبَاحٌ فِي داخل زجاجة فيه الكوكب الدري في صفاتها وذهن الْمِصْبَاحِ مِنْ أَصْفَى الْأَدْهَانِ وَأَقْوَاهَا وَقُودًا لِأَنَّهُ مِنْ زَيْتِ شَجَرٍ فِي أَوْسَطِ الزُّجَاجِ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ فَلَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ النَّهَارِ بَلْ تُصِيبُهَا أَعْدَلَ إِصَابَةٍ.
وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِ ثُمَّ ضَرَبَ للكافر مثلين: أحدهما: {كسراب بقيعة يحسبه}، والثاني: {أو كظلمات في بحر لجي} شَبَّهَ فِي الْأَوَّلِ مَا يَعْلَمُهُ مَنْ لَا يُقَدِّرُ الْإِيمَانَ الْمُعْتَبَرَ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يَحْسَبُهَا بِقِيعَةٍ ثم يخيب أمله بسراب يراه الكافر بالساهرة وَقَدْ غَلَبَهُ عَطَشُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَيَجِيئُهُ فَلَا يَجِدُهُ مَاءً وَيَجِدُ زَبَانِيَةَ اللَّهِ عِنْدَهُ فَيَأْخُذُونَهُ فَيُلْقُونَهُ إِلَى جَهَنَّمَ.